الغفلة...داء فتاك
حتى إن المرء لو نظر لأحوال هؤلاء لوجد جرأة عجيبة على الله، وسَيْرًا في طريق المعاصي والشهوات، وتهاونًا بالفرائض والواجبات، فيتساءل: هل يُصدِّق هؤلاء بالجنة والنار؟ أم تراهم وعدوا بالنجاة من النار وكأنها خلقت لغيرهم؟ يقول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].
إن حال هؤلاء يصدق فيه قول القائل:
نهارك يا مغرور سهو وغفلةٌ *** وليلك نومٌ والردى لك لازمٌ
وشغلك فيما سوف تكره غبه *** كذلك في الدنيا تعيش البهائم
إن من أعظم أسباب الغفلة الجهل بالله عز وجل وأسمائه وصفاته. والحق أن كثيرًا من الناس لم يعرفوا ربهم حق المعرفة، ولو عرفوه حق المعرفة ما غفلوا عن ذكره، وما غفلوا عن أوامره ونواهيه؛ لأن المعرفة الحقيقية تورث القلب تعظيم الرب ومحبته وخوفه ورجاءه، فيستحي العارف أن يراه ربه على معصية، أو أن يراه غافلاً. فأُنس الجاهلين بالمعاصي والشهوات، وأُنس العارفين بالذكر والطاعات.
ومن أعظم أسباب الغفلة الإغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها. قال الله عز وجل: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
إن حال هؤلاء ليُنبئ عن سُكْر بحب الدنيا وكأنهم مخلدون فيها، وكأنهم لن يخرجوا منها بغير شيء من متاعها مع أن القرآن يهتف بنا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5]. إن سكران الدنيا لا يفيق منها إلا في عسكر الموتى نادما مع الغافلين.
ومن أسباب الغفلة أيضًا صحبة السوء، فقد قيل: الصاحب ساحب، والطبع يسرق من الطبع، فمن جالس أهل الغفلة والجرأة على المعاصي سرى إلى نفسه هذا الداء: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27-29].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المرء على دين خليله ....) الحديث.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: إن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين، فليتخير العبد أعجبهما إليه وأَولاهما به، فهو مع أهله في الدنيا والآخرة.
إن الغفلة حجاب عظيم على القلب يجعل بين الغافل وبين ربه وحشة عظيمة لا تزول إلاَّ بذكر الله تعالى.
وإذا كان أهل الجنة يتأسفون على كل ساعة مرت بهم في الدنيا لم يذكروا الله فيها، فما بالنا بالغافل اللاهي؟!!
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99، 100].
إنهم عند نزول الموت بساحتهم يتمنون أن يؤخروا لحظات قلائل، والله ما تمنوا عندها البقاء حبًّا في الدنيا ولا رغبة في التمتع بها، ولكن ليتوبوا ويستدركوا ما فات، لكن هيهات {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54].
لقد خُلقنا في هذه الدار لطاعة الله وليست الدنيا بدار قرار:
أما والله لو علم الأنــــام *** لم خلقوا لما غفلوا وناموا
لقد خلقوا لما لو أبصرته *** عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
مماتٌ ثم قبرٌ ثم حشــــرٌ *** وتوبيخ وأهوالٌ عظامُ
هيا بنا نُقْبِلُ على طاعة الله مكثرين من ذكره، مستفيدين من الأوقات فيما يقربنا من جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر:
إن لله عبادًا فُطَنًـــــــــا *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا *** أنها ليست لحيٍّ وطنًا
جعلوها لُجَّةً واتخــذوا *** صالح الأعمال فيها سُفُنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق