الليلة الرمادية
بقلم : حصة بنت عبدالله
هناك على كرسي خشبي جلست تلك المرأة وهي تنظر في هدوء أمامها ، حيث ولدها الوحيد ذو الثمانية أعوام وهو يمسك بدمية صغيرة
وبيده الأخرى كأس ماء وهو يحاول إقناع الدمية لتشرب من الماء!
نظرت الأم بعينين شاحبتين إلى قطعة من فؤادها تقبع أمامها نظرة ، وأطالت النظر حتى تجاوزت بنظرها سنوات عديدة مرت من حياتها
وتحديداً تلك السنة التي رزقها الله فيها بولد ملأ عليها حياتها بعد أن عاشت سبع سنوات بعد زواجها وهي تُمني نفسها بولد حتى جاء (
عادل ) .
فأحست أن الحياة قد تغير طعمها وأصبحت ترى حياتها بعيني طفلها الوحيد ولاسيّما أن الأطباء قد ذكروا لها أنه لا أمل في أن تنجب بعد
( عادل ) أبداً .
بذلت كل أيامها لـ (عادل) كانت ترى فيه الحياة كلها أحبته حباً لا حدود له وأفاضت له نهر العطاء الدفاق بسخاء لامثيل له .
كبر الابن شيئاً فشيئاً ، وأمه يكبر اهتمامها به أكثر فأكثر فكانت لاتنام إلا ويدها تحضن كفيه الصغيرتين ، وعلى الرغم من أن الطفل قد
بلغ الخامسة من عمره إلا أنه كان يقضي فترات طويلة في حضن أمه !! وكثيراً ماكان أقاربها يلومونها على هذه الرعاية الزائدة فهي لا
يهنأ لها بال إن كانت عند أحدهم عندما يذهب ليلعب مع الأطفال فتقوم بالحال لترقابه وهو يلعب أو تأتي به ليلعب أمام ناظريها .
تذكرت ذلك اليوم عندما قال لها زوجها : دعي الطفل يعتمد على نفسه ، سينشأ الطفل مدللاً ، قاطعته هي : أبا عادل ، كثيراً ما أسمع من
الأمهات أن الطفل الأول والأخير يحظيان باهتمام ورعاية زائدة وحب أكثر فكيف بعادل وهو الطفل الأول والأخير فلابد أنا يأخذ الحب
والحنان كله .
تمر الأيام ويدخل عادل المدرسة فيتقطع لذلك قلب أمه ، فكانت تنتظره يومياً في فناء المنزل ليعود ويرتمي في أحضان أمه .
وكذا تمر السنوات لتأتي تلك الليلة الغريبة التي حدث فيها مالم يكن في الحسبان ، تلك الليلة التي مازالت أم عادل تتذكر أدق تفاصيلها
جيداً ، كيف لا؟ ، وهي الليلة التي أهدت لها ثياب الحزن الأبدية وسقتها من شراب الهم كؤوسها ، لم ولن تنسى طعمها أبداً ، بعد
أحداث تلك الليلة ، عندما طلب أبوعادل من زوجته أن تنام عند أهلها لظرف طارئ في العمل .
فذهبت لأهلها ومعها فلذة كبدها وكان قد بلغ الثامن من عمره ، فعندما حان وقت النوم جاءت أختها الي تبلغ الثانية عشرة من عمرها
ومعها إخوانها الصغار ، وطلبت منها أن تسمح لعادل أن ينام معهم في سطح المنزل ، ضحكت أم عادل وقالت : مستحيل ، اذهبوا أنتم
وناموا هناك أما عادل فلن يفارقني .
رفع عادل الذي كان جالساً بجوار أمه عينيه الصغيرتين نحو أمه وقال : أرجوك يا أمي سأنام معهم ، قالت هي : لا يا عادل ، ألن تنام
بجانبي ؟
هتف عادل : أنا كبير يا أمي ، أرجوك ! ثم التفت نحو جدته وقال : جدتي قولي لأمي أن تسمح لي بأن أنام معهم ، قالت الجدة : يا ابنتي
دعيه ينام معهم الليلة ، الليلة فقط ! لن يصيبه شيء فهو مع إخوتك .
وهنا تدافعت الأصوات ولم تجد أم عادل بدَّاً من الموافقة ، فتراكض الأطفال الصغار ومعهم عادل الصغير .
دفنت أم عادل وجهها بكفيها وقالت في حسرة : أمي أشعر أن عادل سيحصل له شيء ، أشعر بشعور غريب ، قالت أمها ( في هدوء ) :
اطمئني هذا الشعور فقط لأنك لم تتعودي أن ينام ابنك بعيداً عنك ولكن لا تخافي لابد أن يعتمد عادل على نفسه .
صمتت أم عادل وقلبها مازال مقبوضاً على ولدها ، هناك شيء ما سيحصل لولدها !
بدت الهواجس تغزو عقلها وبعد ساعة من التفكير تسلل النوم إلى جفنيها ونامت رغماً عنها ، وأخذت ساعات الليل تزحف ببطء
والصغار نائمون ... وفجأة بلا مقدمات هبت رياح قوية و أخذت تصفق هنا وهناك ، واستيقظ الأطفال واحداً تلو الآخر فقد اعتادوا أن
تقطع نومتهم في هذا المكان ظروف الجو القاسية .
فأخذوا ينزلون والنوم ملء أعينهم ، منهم من نزل بفراشه ومنهم بوسادته ، وآخر نزل ليس معه شيء ، وارتمى كلٌّ منهم على سريره
واستسلموا للنوم مباشرة .
وهناك على سطح المنزل أخذت الريح تتلاعب بالمكان ...
ثمة وسادة مرمية هنا !
و هناك بعض الأغطية !
وهناك طفل صغير لم تستطع الرياح إيقاظه !
أخذت الرياح تقوى شيئاً فشيئاً حتى أخذت تصدر أصواتاً عالية مما أيقظ عادل ، الذي فتح عينيه والتفت هنا وهناك ( أين هو ، لا يدري
ماهذا المكان الموحش ، لا يدري ! ) عجز عقله الصغير أن يستوعب المكان الذي هو فيه ...
ليلٌ أسود !
ظلامٌ كحيل !
أصوات غريبة !
الرياح تطرق الأبواب وتصدر أصواتاً ... حتى حفيف الأشجار في الشوارع ! ... كان صوتاً مرعباً !
بدا وجه عادل شاحباً ولم يتذكر في هذا الجو المخيف سوى ذلك الحضن الدافئ الذي كثيراً ما يلجأ إليه ، وذلك الحنان الذي ارتوى منه
سنين فصرخ بأعلى صوته : أمي أمي ، ولكن حنجرته الصغيرة لم تساعده كثيراً ، فقد بح صوته وأصبحت أوصاله ترتعد خوفاً ، تجمدت
أطرافه والظلام يلف المكان والرعب يلف الطفل الصغير فأخذ يصرخ بصوت لا يسمعه إلا نفسه : أمـــي .. أمـــي .. أمـــــي !
هبت الأم مذعورة من مكانه على قطرات من الماء سقطت على وجهها ، فتحت عينيها فإذا بعادل أمامها ومازالت الدمية في يده ،
نفضت رأسها بقوة لتنفض باقي تلك الليلة الرمادية الأليمة ، ثم التفت نحو ولدها الذي هتف بصوت طفولي : أمي ، انظري الدمية
رفضت أن تشرب الماء
بقلم : حصة بنت عبدالله
هناك على كرسي خشبي جلست تلك المرأة وهي تنظر في هدوء أمامها ، حيث ولدها الوحيد ذو الثمانية أعوام وهو يمسك بدمية صغيرة
وبيده الأخرى كأس ماء وهو يحاول إقناع الدمية لتشرب من الماء!
نظرت الأم بعينين شاحبتين إلى قطعة من فؤادها تقبع أمامها نظرة ، وأطالت النظر حتى تجاوزت بنظرها سنوات عديدة مرت من حياتها
وتحديداً تلك السنة التي رزقها الله فيها بولد ملأ عليها حياتها بعد أن عاشت سبع سنوات بعد زواجها وهي تُمني نفسها بولد حتى جاء (
عادل ) .
فأحست أن الحياة قد تغير طعمها وأصبحت ترى حياتها بعيني طفلها الوحيد ولاسيّما أن الأطباء قد ذكروا لها أنه لا أمل في أن تنجب بعد
( عادل ) أبداً .
بذلت كل أيامها لـ (عادل) كانت ترى فيه الحياة كلها أحبته حباً لا حدود له وأفاضت له نهر العطاء الدفاق بسخاء لامثيل له .
كبر الابن شيئاً فشيئاً ، وأمه يكبر اهتمامها به أكثر فأكثر فكانت لاتنام إلا ويدها تحضن كفيه الصغيرتين ، وعلى الرغم من أن الطفل قد
بلغ الخامسة من عمره إلا أنه كان يقضي فترات طويلة في حضن أمه !! وكثيراً ماكان أقاربها يلومونها على هذه الرعاية الزائدة فهي لا
يهنأ لها بال إن كانت عند أحدهم عندما يذهب ليلعب مع الأطفال فتقوم بالحال لترقابه وهو يلعب أو تأتي به ليلعب أمام ناظريها .
تذكرت ذلك اليوم عندما قال لها زوجها : دعي الطفل يعتمد على نفسه ، سينشأ الطفل مدللاً ، قاطعته هي : أبا عادل ، كثيراً ما أسمع من
الأمهات أن الطفل الأول والأخير يحظيان باهتمام ورعاية زائدة وحب أكثر فكيف بعادل وهو الطفل الأول والأخير فلابد أنا يأخذ الحب
والحنان كله .
تمر الأيام ويدخل عادل المدرسة فيتقطع لذلك قلب أمه ، فكانت تنتظره يومياً في فناء المنزل ليعود ويرتمي في أحضان أمه .
وكذا تمر السنوات لتأتي تلك الليلة الغريبة التي حدث فيها مالم يكن في الحسبان ، تلك الليلة التي مازالت أم عادل تتذكر أدق تفاصيلها
جيداً ، كيف لا؟ ، وهي الليلة التي أهدت لها ثياب الحزن الأبدية وسقتها من شراب الهم كؤوسها ، لم ولن تنسى طعمها أبداً ، بعد
أحداث تلك الليلة ، عندما طلب أبوعادل من زوجته أن تنام عند أهلها لظرف طارئ في العمل .
فذهبت لأهلها ومعها فلذة كبدها وكان قد بلغ الثامن من عمره ، فعندما حان وقت النوم جاءت أختها الي تبلغ الثانية عشرة من عمرها
ومعها إخوانها الصغار ، وطلبت منها أن تسمح لعادل أن ينام معهم في سطح المنزل ، ضحكت أم عادل وقالت : مستحيل ، اذهبوا أنتم
وناموا هناك أما عادل فلن يفارقني .
رفع عادل الذي كان جالساً بجوار أمه عينيه الصغيرتين نحو أمه وقال : أرجوك يا أمي سأنام معهم ، قالت هي : لا يا عادل ، ألن تنام
بجانبي ؟
هتف عادل : أنا كبير يا أمي ، أرجوك ! ثم التفت نحو جدته وقال : جدتي قولي لأمي أن تسمح لي بأن أنام معهم ، قالت الجدة : يا ابنتي
دعيه ينام معهم الليلة ، الليلة فقط ! لن يصيبه شيء فهو مع إخوتك .
وهنا تدافعت الأصوات ولم تجد أم عادل بدَّاً من الموافقة ، فتراكض الأطفال الصغار ومعهم عادل الصغير .
دفنت أم عادل وجهها بكفيها وقالت في حسرة : أمي أشعر أن عادل سيحصل له شيء ، أشعر بشعور غريب ، قالت أمها ( في هدوء ) :
اطمئني هذا الشعور فقط لأنك لم تتعودي أن ينام ابنك بعيداً عنك ولكن لا تخافي لابد أن يعتمد عادل على نفسه .
صمتت أم عادل وقلبها مازال مقبوضاً على ولدها ، هناك شيء ما سيحصل لولدها !
بدت الهواجس تغزو عقلها وبعد ساعة من التفكير تسلل النوم إلى جفنيها ونامت رغماً عنها ، وأخذت ساعات الليل تزحف ببطء
والصغار نائمون ... وفجأة بلا مقدمات هبت رياح قوية و أخذت تصفق هنا وهناك ، واستيقظ الأطفال واحداً تلو الآخر فقد اعتادوا أن
تقطع نومتهم في هذا المكان ظروف الجو القاسية .
فأخذوا ينزلون والنوم ملء أعينهم ، منهم من نزل بفراشه ومنهم بوسادته ، وآخر نزل ليس معه شيء ، وارتمى كلٌّ منهم على سريره
واستسلموا للنوم مباشرة .
وهناك على سطح المنزل أخذت الريح تتلاعب بالمكان ...
ثمة وسادة مرمية هنا !
و هناك بعض الأغطية !
وهناك طفل صغير لم تستطع الرياح إيقاظه !
أخذت الرياح تقوى شيئاً فشيئاً حتى أخذت تصدر أصواتاً عالية مما أيقظ عادل ، الذي فتح عينيه والتفت هنا وهناك ( أين هو ، لا يدري
ماهذا المكان الموحش ، لا يدري ! ) عجز عقله الصغير أن يستوعب المكان الذي هو فيه ...
ليلٌ أسود !
ظلامٌ كحيل !
أصوات غريبة !
الرياح تطرق الأبواب وتصدر أصواتاً ... حتى حفيف الأشجار في الشوارع ! ... كان صوتاً مرعباً !
بدا وجه عادل شاحباً ولم يتذكر في هذا الجو المخيف سوى ذلك الحضن الدافئ الذي كثيراً ما يلجأ إليه ، وذلك الحنان الذي ارتوى منه
سنين فصرخ بأعلى صوته : أمي أمي ، ولكن حنجرته الصغيرة لم تساعده كثيراً ، فقد بح صوته وأصبحت أوصاله ترتعد خوفاً ، تجمدت
أطرافه والظلام يلف المكان والرعب يلف الطفل الصغير فأخذ يصرخ بصوت لا يسمعه إلا نفسه : أمـــي .. أمـــي .. أمـــــي !
هبت الأم مذعورة من مكانه على قطرات من الماء سقطت على وجهها ، فتحت عينيها فإذا بعادل أمامها ومازالت الدمية في يده ،
نفضت رأسها بقوة لتنفض باقي تلك الليلة الرمادية الأليمة ، ثم التفت نحو ولدها الذي هتف بصوت طفولي : أمي ، انظري الدمية
رفضت أن تشرب الماء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق