بسم الله الرحمن الرحيم
مع الاسم السادس والعشرين من أسماء الله الحسنى والاسم هو الودود ، لقول الله عز وجل ، في سورة البروج :
وَهُوَ الغَفورُ الوَدودُ ﴿١٤﴾
(سورة البروج)
الله سبحانه وتعالى ودود ..
الودود على وزن فعول ،من صيغ مبالغة اسم الفاعل ، واسم الفاعل وادّ والمصدر هو الودُّ ، إذاً اسم الودود أصله من الودِّ ، فماذا تعني كلمة ود ؟
في المعاجم ؛ الود هو الحب ، ولماذا سُميَ الحب حباً ؟ قال الحب مأخوذ من حَبَب الأسنان ،وحبب الأسنان صفاؤها وبياضها ونقاؤها، وأسنان بيض ناصعة نظيفة نقية صافية ، فالذي يُحب الله عزَّ وجل من خصائصه الصفاء والنقاء والطُهر والإخلاص .
والحُب مِن أحبَّ البعيرُ ؛ أي استناخ ، فالمُحب خاضع لمحبوبه ؛ فنأخذ من حبب الأسنان الصفاء والنقاء ، ونأخذ من أَحَبَّ البعيرُ أي أناخ أي خضع ، فإنَّ المُحب لمن يحب يطيع ، والمُحَب : مستعل ، والمُحِب خاضع ، والمحِب متواضع ، والمُحب مُتذلل ، والحُبُ هو القرطُ ، والقرط ما تضعه النساء من الحلي في آذانهن ، ومن شأن القرط أنه دائم التقلقل فالمُحِب يتقلّب في اليوم الواحد من عشرين إلى أربعين حال ، أما هذا الذي يلزم حالاً واحدة فهو منافق؛ فالمحِب يتقلب من الخوف إلى الرجاء ، إلى السكينة إلى القلق إلى السرور إلى السعادة إلى الشعور بالخطر إلى القلق على محبوبه وما دام هناك حياة فله حركة ،أما الميّت فهو ساكن ،والذي مات قلبه تسكُن أحواله ،إذاً من معانيه: والمُنافق يمضي عليه أربعون عاماً ولا يتغير ،حالُه حال السكون ،لكنَّ الحياة فيها غليّان ،وفيها تقلّب وفيها تغيّر من حال إلى حال . فالحُبُّ ؛ إذاً من معاينة : القرط ، ومن شأن القرط التقلقل والتحرك .
والحَبّ ؛ من الحبة التي تنبت شجرة ، فالحَب له ثمار يانعة مثلُ كلمة طيبة ، أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين .
وهذا يعني أنك إذا أحببت الله ، فحُبُكَ لله عز وجل بذرة ، تنبت شجرة وارفة الظِلال يانعة الثمار باسقة الأغصان ،خيرها دائم وظِلُها كل هذه المعاني، الصفاء والنقاء والخضوع والتذلل والتقلقل ، والنماء والخير العميم أي كل هذه المعاني مستفادة من الحب ، لكن السؤال الدقيق هل الُودّ هو الحب؟ إذا قلنا نعم فيأتي سؤال وما الفرق بينهما ، وهل في اللغة اسمان مختلفان لمُسمىً واحد؟ ،أم أنَّ الاختلاف في المبنى دليل اختلاف المعنى؟ ، لا شك أن هناكَ فرقاً دقيقاً بين الحُب والود ، الحب ما استقر في القلب ، والود ما ظهر على السلوك ، فإن كنت تُحب فلاناً فمشاعر الميل نحوه هي الحب ، وابتسامتك في وجهه هي الود ، وإذا قدمت له هديةً فهي ود أو أعنته في مشكلة فهي ود ، أو عُدته إذا مرض فهي ود أو قدمت له هديةً في زواجه فهي ود أو نصحته فذلك ود ، فالمشاعر الداخلية هي الحب ، والمسالك المادية هي الود فكل ودود محب ، وليسَ كلُ مُحب ودوداً .
ويمكن لإنسان أن ينطوي على محبة ولا تظهر في سلوكه ، و كل ودود مودته أساسها مشاعر الحب في قلبه ، والله سبحانه وتعالى يقول :
" وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ " .
يعني كل هذا الكون تودََدَّ من الله إلى الإنسان، فالكون والمجرات والسماوات والأرض ،والشمس والقمر ،والأمطار، ومليون نوع من السمك ، ود وتسعمائة ألف نوع من الطيور ود، والآلاف المؤلفة من أنواع الأزهار بِشتّى الأشكال والروائح ود ، وأنواع الفواكه ود وهذا الطفل الصغير الذي يملأ البيت حيوية ود ، وهذه الزوجة التي صُمِّمَت تكريماً للإنسان ، وهذا الزوج الذي خُلق تكريماً للمرأة ود، وهذا الصوف الذي خلقه الله لنا ليقينا برد الشتاء ود ، و أيُّ شيٍء سُخرَ لهذا الإنسان هو في الأصل ود ، و الخلق، والكون كله قد سخره الله لهذا الإنسان تسخير تعريف وتكريم ، فالوَدود هو الذي يُنتقل حبه إلى سلوك .
وهنا تطالعنا حقيقة ملموسة وهي أن الإنسان إذا أحب يميل ، فإذا ابتعد المحبوب أَلَمَّ بالمحبَّ ألمّ ، وهذا ألمُ الفِراق ، وما من إنسان يودّع محبوباً في المطار إلا ويبكي ، وما من أُم يفارُقها عنها ابنها إلا وتبكي فهل يصح هذا المعنى بالنسبة إلى الله عز وجل ؟ ،
إن علماء التوحيد قالوا : " لا ، فالميل الذي من شأنه الضعف والتحسر والألم ، هذا لا يصح على الله عز وجل ، ولكن الإنسان إذا أحب أحسن ، وإذا أحب خضع وإذا أحب تذلل "، فالإنسان هكذا يفعل ، ولكن الله إذا أحب أحسن ورحم وأكرم ، فحُب الله عز وجل للمؤمنين ثابت في القرآن الكريم والدليل :
يٰأَيُّهَا الَّذينَ ءامَنوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دينِهِ فَسَوفَ يَأتِى اللَّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكٰفِرينَ يُجٰهِدونَ فى سَبيلِ اللَّهِ وَلا يَخافونَ لَومَةَ لائِمٍ ۚ ذٰلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتيهِ مَن يَشاءُ ۚ وَاللَّهُ وٰسِعٌ عَليمٌ ﴿٥٤﴾
(سورة المائدة)
محبة الله عز وجل للمؤمن تعني حِفظه ، وتأييده ، ونصره وإكرامه ، وإنزال الرحمة على قلبه ، وإنزال السكينة ، وإغناءَه بكل ما يحتاج، هذا هو الحب الإلهي أما حُب الإنسان لله عز وجل فيعني الميل فإذا جفاك ربك وأبعدك عن أنواره شعرت بألم لا يطاق .
فما حبنا سهل ولكن من ادعــى سهولته قلنا له قد جهلتنــا
فأيسر ما في الحب للصبّ قتله وأصعب من قتل الفتى يوم هجرنا
والإنسان إذا أحب الله مالَ إليه ، وخَلَدَ إلى ظِلِهِ وإلى أنوارهِ وإلى تجليّاتهِ وإلى سكينته ، وإلى الشعور بأن الله يحميه ويحفظه ، لكن حُب الله للإنسان يعني التأييد والنصر والحفظ وما شاكل ذلك ، أمّا الودّ فهو ما يتجسّد به الحب ، وهذه مقدمة أظنها ضرورية ومفيدة .
ونتجاوز المقدمة الآن إلى المعاني الدقيقة التفصيلية لمعنى الودود فالله سبحانه وتعالى يقول : " وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ " .
الودود بوزن فَعول ، والفعول هنا بمعنى فاعل ، الوادّ ، الذي يُكرم عباده ، والذي تُعَدُّ نِعَمُهُ مظهراً لحُبهِ لعباده ، فأنت مثلاً وبشكل بسيط إذا أحببت إنساناً ورأيت على ظهره نملة ، فإنك تنجّيها عنه ، وإذا أحببت إنساناً ورأيته يرتجف برداً فإنك تعطيه معطفك ، وإذا أحببت إنساناً ورأيته بحاجة إلى شيءٍ ما فأنت تقدمه له ، فالود هو المظهر المادي للحب وربنا عز وجل وهو الغفور الودود ، والوادّ .
كل هذا الكون مظهر لحبه ، وكل هذا الكون نوع من أنواع الود الإلهي ، إنه تودَّدَ إلينا بهذا الكون . ومن أجل ألاّ نبتعد عن هذا الموضوع كثيراً ، فهذه الدواب ألا تأكل طوال حياتها الشعير فقط ، فهو بالنسبة لها المقبلات وهو الحلويات وهو الفواكه ، وليس لها غير الشعير والأعشاب أما الإنسان فيمكن أن يأكل إلى شهر كل يوم لوناً من الطعام ، ويمكن أن يتذوّق أنواعاً كثيرة من الفواكه ، ويمكن أن يستعمل الأزهار .
وإذا دخلنا إلى محل عطورات فشيء يأسِر ويدهش ، إذ منها ألوف الأنواع ، وكلها في الأصل من خلق الله عز وجل ، فهذا الياسمين وهذا البنفسج وهذا الورد ، وكل أنواع الروائح عطاءُ فيضٍ من خلق الله عز وجل .
خلَقَ هذه الروائح الطيبة ، وخلق هذه الحاسة الدقيقة التي تتذوق هذه الروائح الطيبة ، إذاً : خَلَقَ الشيء وخَلَقَ الجهاز المُستقبِل لَهُ ، وخَلَقَ هذه النِعمة وخَلَقَ ما يستقبِلُهَا ، فهذا هو الود.
إذاً : هنا الودود يعني الوادّ ، و الودود هو الذي يتودد إلى عباده بالنِعم ، فإذا صحت الرؤية واستيقظَ القلب وتفتّحَت البصيرة ، رأيت أنَّ كل هذا الكون ما هو إلا تودد من الله إلى هذا الإنسان .
والآن أنت حينما تصلي وتصوم و تحج ، وحينما تغض من بصرك وتتصدق ، و تكون أميناً ، و تنصح المسلمين ، و تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتنفق من مالك ، كل هذه الأفعال من اعتقادات إلى عبادات إلى معاملات إلى آداب، هي في حقيقتها تودد إلى الله عز وجل هو تودد إلينا بالكون ، وأوجدنا بالخلق ، وسخر لنا هذا الكون ، وأعد لنا جنة عرضها السماوات والأرض ، ونحن نتودد إليه بالإيمان به ، وبعبادته وطاعته ، وامتثال أمره ، وبترك ما نهى عنه ، وبالتخلّق بأخلاق نبيّه وبالبذل والعطاء ، ويكون الكون كله من قبل الله تودد إلى هذا الإنسان ، وكل أعمال الإنسان الصالحة هي في حقيقتها تودد إلى هذا الخالق العظيم . " وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ " أي الواد ، الذي يتودد إلى عباده بنعمه .
أسألك بالله عزيزي القارئ ، لو دعاك أحدهم إلى بيته ، ورأيت هذا البيت مُدفَّأً مسبقاً إكراماً لك ، والماء العذب الزلال المُعطّر بماء الزهر والأرائك ، والمشروبات اللذيذة المتقنة و الطعام النفيس العطر ، والورود والهدايا ، ألا تخجل ، ألا تذوب حُباً له ، ألا تشكره من أعماقك، ثم ألا تقول له : والله يا أخي ، فضلت عليَّ ، والإنسان عبد الإحسان ، ولماذا تتحسس إذ أدى إنسان عنك الإجرة في سيارة ؟ طوال الطريق تبقى خجلاً منه : وتقول يا أخي والله خجلتني .. كلها من أجل ليرتين ، أو إن جاءك إنسان مهنئاً ومعه هدية ، تحار كيف تُكرمه ، ولماذا هذا التحسس بفضل الإنسان ؟ وهذا الفضل الإلهي وأوّلُه أنه ؛ خلقك من لا شيء ، ألاّ يستحق منك كامل التحسس ، قال تعالى :
هَل أَتىٰ عَلَى الإِنسٰنِ حينٌ مِنَ الدَّهرِ لَم يَكُن شَيـًٔا مَذكورًا ﴿١﴾
(سورة الإنسان)
هذا الفضل الإلهي من دون تحسس ، ومن دون شكر ، هل قلت من أعماق أعماقك ؟ يا رب لك الحمد على أن خلقتني ، يا رب لك الحمد على أن عرّفتني بذاتك ، يا رب لك الحمد على أن أعنتني على طاعتك ، ثم يا رب لك الحمد على أن نوّرت قلبي بنورك ، و يا رب لك الحمد على أن ألهمتني أعمالاً صالحة ، فالله يقول لك : أنا سأسمع ؛ فقل وتكلّم لأسمعك ، فتقول له سَمِعَ الله لمن حمده ، ألا تفعل هذا في الصلاة ألا تقول سَمِعَ الله لمن حمده ، يعني يا عبدي أنا أسمعك فيما تقول ، ربنا لك الحمد والشُكر ، وهناك من يقول : يا رب لك الحمد والشُكر والنعمة والرضا ، هناك من يقول : يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً بعدد خلقك ، يعني ما نَشَأَ بقلب الإنسان من شعور عميق بالحمد فلله عز وجل ، واذكروا دائماً أنّ كل هذا الكون تودد إليك.
مرةً سافرت، فانتظرني شخص بالمطاروأخذني إلى بيته وخصص لي سائقاً وسيارة، وأنزلني بأفخم فندق في مكة المكرمة وبالمدينة كذلك ، وعمل دعوتين أو ثلاثاً ودعا إليها عشرات الأشخاص وقدم معروفاً لا أنساه حتى الموت ، و كلما جاء إلى الشام أحار كيف أُكرمه وكيف أُقدم له الهدايا و أدعوه ، وهو إنسان استضافني عشرة أيام في موسم الحج .
فالنِعم الإلهية التي تترى على هذا الإنسان لا حصر لها ، فعندما يدخل إلى الخلاء يُفرغ مثانته ، من دون آلام و لا تمييل ، ولا حصر بالبول ، ولا صراخ ، ولا إسعاف إلى المشفى ، هذه نعمة عظيمة ، بدأت بذكرها لأن كثيراً من الناس غافلون عنها . فهل من مذّكر .
والقلب يعمل بانتظام ، والدسام يعمل بانتظام ، الأوردة والشرايين والمعدة والأمعاء و الكبد والكليتان ، وجهاز التنفس والأعصاب والإنسان يتمتع بنعمة عقله في رأسه وهذه من نِعم الله العظمى .
فكل هذا الكون تودُّد لهذا الإنسان ، ويجب أن يكون لسان حال المؤمن :
قُل إِنَّ صَلاتى وَنُسُكى وَمَحياىَ وَمَماتى لِلَّهِ رَبِّ العٰلَمينَ ﴿١٦٢﴾
(سورة الأنعام)
فحياتي كلها ، ووقتي كله ، وطاقتي ومالي وإمكانياتي و علمي وأولادي ، وبيتي في خدمة عبادك ،ومهنتي في خدمة عبادك ، ومالي امتثالاً لأمرك وإيماناً بك . وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان : "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " .
ذات مرةٍ رويتُ واقعة ؛ قسم منها واقعي والقسم الثاني تكملة إنَّ رجلاً كان يريد أن يلقي بكيسٍ في حاوية القمامة ، فوجد كيساً أسود يتحرك ، فانتشله فإذا فيه طفل صغير وُلِدَ توّاً ، هذه قصة واقعية في الشام فأخذه إلى دار التوليد ،فأنعشوه في الحاضنة ،حتى تحسنت صحته ،ثم نقله إلى البيت واعتنى به عناية بالغة حتى صار في سن الدراسة ، فأدخله إلى المدرسة ، إلى آخره .
التكملة تابع تعليمه إلى أن تخرج طبيباً ثم بعثه للتخصص وعاد بشهادة البورد ، فاشترى له بيتاً وعيادة ، وزوجه ، فهذا الطبيب اللامع حينما يعلم أن هذا الإنسان سبب حياته ، واللهُ هو المُحيي ، وسبب هذه المرتبة العليّة ، كيف يكون موقفه منه؟ إنه يقول له دائماً : أنا لا أنسى لك هذا الفضل حتى الموت . فأنت الشيء نفسه ، لم تكن شيئاً مذكوراً خلقك تنعم من أول لحظة بهديتين نفيستين :
أَلَم نَجعَل لَهُ عَينَينِ ﴿٨﴾ وَلِسانًا وَشَفَتَينِ ﴿٩﴾ وَهَدَينٰهُ النَّجدَينِ ﴿١٠﴾
(سورة البلد)
فأول هدية أنه حينما يولد الإنسان فيلهمه الله عز وجل عملية بالغة التعقيد هي المص ، الآن ولد ، وخلال دقائق يضع شفتيه على حلمة الثدي ويُحكم إغلاقَهما ويسحب الهواء ، فلولا أن الله يُلهمه هذا السلوك المُعقّد لما كُنا على وجه الأرض جميعاً .
والهدية الثانية ؛ هي الأم ، مَن هذا الكائن ؟ إنها الأم آية من آيات الله ؛ فوجودها من أجل ابنها ، و أعصابها وإدراكها ومشاعرها إنها تتفاعل مع ابنها تفاعلاً عجيباً ، وكأن هناك اتصالاً دائماً ، فإذا كانت عند الجيران ، تقول لقد استيقظ ابني ، كيف عرفت ؟ لقد طفّ الحليب من ثديها .
فالأم هدية ، والأب هدية ، وقد قال لي رجل أنا خادم مخلص بلا أجرة ، فما أريد في هذه الدنيا سوى طعامي وكسائي ، إنني أتعب من أجل أولادي ، فالأب خادم لأولاده ، يشقى ليسعدوا ، ويريد تأمين بيت لأحد أبنائه مثلاً يسعى ليزوج آخر وهكذا ... فالأب هدية ، والزوجة هدية والأولاد هدية .
هذا الهواء ، وهذا الماء العذب الزلال ، فكل ليتر ماء تكلّف تحليته من خمسة إلى ستة ريالات في المملكة العربية السعودية ،ستة ريالات تعني سبعين ليرة ، فأنت تأخذ ماء عذباً زلالاً، ففي كل ثانية تستهلك دمشق ستة عشر متراً مكعباً من مياه عين الفيجة ، ماء مُصفّى عذباً فراتاً ، فالماء هدية من الله عز وجل .
وما تقول بأنواع الفواكه ، أيضاً ؟ وكذلك منحك الله عقلاً فأتقنت أعمالك وسعدت به ، فإتقان العمل كرامة ، ولك دخل ثابت ، فهذه حِرفة وكلّ له اختصاص ، فهذا طبيب وهذا مهندس، فلذلك بحثنا هذا شامل شمولاً كبيراً جداً ، فكل الكون تودد من الله إليك ، ويجب أن تكون حياتك ومماتك ونُسُكُكَ وعبادتك ومالك لله قال أحدهم لشيخه : يا سيدي كم الزكاة ؟ فقال: يابني أعندكم أم عندنا ؟ قال : ما هذا السؤال؟ مَن نحن ومَن أنتم؟ قال : عندكم اثنان ونصف بالمائة ، أما عندنا ، أهل الحب فالعبد وماله لسيده .. فهل تتفهم هذا الكلام الذي تبدأ به صلاتك ؟
قُل إِنَّ صَلاتى وَنُسُكى وَمَحياىَ وَمَماتى لِلَّهِ رَبِّ العٰلَمينَ ﴿١٦٢﴾ لا شَريكَ لَهُ ۖ وَبِذٰلِكَ أُمِرتُ وَأَنا۠ أَوَّلُ المُسلِمينَ ﴿١٦٣﴾
(سورة الأنعام)
هذا هو المعنى الأول
والمعنى الثاني ؛ أن يكون معنى كونه ودوداً أي يخلُق المودة بين خلقه ، فمن ألقى حُب الأبناء في قلوب الأمهات ؟ ادخلْ مشفى الأطفال فإنك ترى منظراً يُبكّي ،فالأم البدوية تبكي من أجل ابنها ،والسافرة والمثقفة ، والجاهلة ، والمؤمنة المحجبة كلهن يبكين إنه نمط واحد ، فكل هؤلاء الأمهات أودع الله في قلوبهن محبة تجاه أبنائِهنْ .
إذاً ، أحد معاني كلمة : "ودود" ؛ أنه يخلق الود بين عباده ، الأب أب ، والابن ابن ، والأخ أخ ، والزوجة زوجة كلهم يتواددون فيما بينهم قال تعالى :
وَمِن ءايٰتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِن أَنفُسِكُم أَزوٰجًا لِتَسكُنوا إِلَيها وَجَعَلَ بَينَكُم مَوَدَّةً وَرَحمَةً ۚ إِنَّ فى ذٰلِكَ لَءايٰتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرونَ ﴿٢١﴾
(سورة الروم)
من خلق هذه المودة ؟ ..
لي قريب كان مسافراً خارج القطر لأربع أو خمس سنوات وعنده في كل سنة إجازة شهر ، فكل سنة ليتزوج ، فلا يرى شيئاً مناسباً و تنتهي إجازته ثم يعود ويسافر ، وبعد أن أمضى سنوات عدة توتر توتراً شديداً ، ما هذه الظروف المعاكسة ؟ يقول هذا البيت لأهله مشكلة، و لهذه الفتاة مشكلة ، وهذه لا تُناسب ، وفي السنة الرابعة وفي آخر يوم بالإجازة وجد فتاة مناسبة ، فأحبَّ ألاّ يغادر إلاّ وقد عُقِدَ العقد ، إذ والدته تعرفت إليها عصراً ، فتواعدوا في اليوم التالي ظُهراً أن يأتي موظف المحكمة ليعقد القران ، إقلاع الطائرة الساعة الرابعة عصراً ، فحدثوني أن هذه الفتاة حينما خرجت بعد أن عُقد قرانها على هذا الشاب قد بكت حتى ماتت من البكاء ! البارحة كان يوم الخطبة إنه يوم غريب ، مداه أربع وعشرون ساعة إلا أنه كان يوماً عجيباً ، وفي اليوم التالي كان الوداع فبكت هذه الخطيبة وبكت . ولما يمض على العقد إلاّ سويعات . قال تعالى :
" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "
أول معنى هو يُودكم ، بهذه الصحة بالنِعم بالماء بالطعام بالشراب بالفواكه ، بالأسماك بالأطيار ، وأحياناً ترى أسماك زينة وليست للأكل ، ويكلف الحوض عشرة آلاف أو أكثر ، ومنها أسود ومنها أخضر و منها خيوط فانظر هذه الأسماك ، لماذا خُلقت ؟ من أجلك ، ومن أجل أن تستمتع بمنظرها فقط وهذه العصافير الجميلة لماذا خُلِقت ؟ .. وهذه الأصوات الرائعة لماذا خُلِقت؟ هذه الروائح الزكية لماذا خلقت ؟ وهذه الورود ، صدقاً اطلّعت على كتاب من ثمانية عشر جزءاً ، وهو كتاب كبير الحجم ، وفي كل صفحة صورة وردة ، ثمانية عشر جزءاً كل صفحة فيها صورة لنوع من أنواع الورود ،وليس ورود أبصال ، وعندنا ورود وأبصال فقط ، فلمن هذا ؟ أعطوْا الدابة وردة فأكلتها ، فالذي أعطاها الوردة هو الغبي ، فهذه للشم وليست للأكل، و ليس الورد للدواب .
و في الشتاء في غرفة الجلوس تُحب أن تستمتع بنباتات ضمن الغرف لا تحتاج في جوها إلى شمس ، وهي تنمو وتتنامى ، وهي جميلة إنها نباتات صالونات ، وهناك نباتات للمياه، و نباتات للحقول .
ثلاثمائة نوع عنب ، التفاح أنواع منوّعة ، أخ من إخواننا كان في إفريقيا ، أحضر لي موزتين ،من غينيا لِمَ هاتان؟ قال هاتان لأجل القلي ،ما هذا الكلام !!،هذا للطبخ فقط، وبينما الموزعندنا فاكهة للأكل،وعندهم للطبخ ،ذقتها فوجدتها لا تؤكل،نيئة قليناها مثل البطاطا فهي طيبة شهية ،فكم نوعٍ خَلَقَ الله من الموز ؟ والقمح ثلاثة آلاف وخمسمائة نوع.
أنواع البرتقال ،منها ماء، ومنها ناشف ،وحلو وحامض كبير وصغير ،وما وردي ، كلها مودة من الله عز وجل ، والنوع الواحد من الفاكهة أنواع منوعة ، هذه المودة .
فالمعنى الأول أنَّ الله يودك ، والمعنى الثاني يخلق المودة بين خلقه ، تدخل إلى سهرة في بيت أهلك فترى مودة ، منها مزاح ومعاونة والإنسان كائن اجتماعي ، فمن صممه هذا التصميم ؟ ، يقول لك : سهرنا إلى الثالثة ، مسرورين بما بينهم من مودة بينهم، وأحياناً بحسب السن وبحسب الحِرفة ، تجلس مع أطباء يتحدثون عشر ساعات في حرفتهم مسرورين ، ومع المهندسين الشيء نفسه ، مع المدرسين ، يقول لك مزهواً الدرس الفلاني أتقنته والطلاب أعجبوا به ،اجلسْ مع التجار يقولون لك : هذه الصفقة ممتازة وهذه لم تربح وهذه أرباحنا فيها كانت خيالية كل مجتمع له حديث ممتع وله ترتيبات ، فهذه هي المودة ، خلق بين عباده الود .
المعنى الثالث بمعنى فعول : أي أن الله سبحانه وتعالى يتوددُ عبادُه إليه ،و هو يتودد إلى عباده ، وهو يخلق المودة في قلوب عباده بعضهم لبعض ، فعباده يتوددون إليه ، أي ثلاثة معانٍ دقيقة للود ، من الله إلى عباده ، ومن العباد إلى ربهم وبين العباد فيما بينهم . لهذا يقول عليه الصلاة والسلام :
" رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس " .
و أعقلُ عمل ، أحكمُ عمل ، وأذكى عمل يفعله المؤمن بعد أن يؤمن بالله أن يتودد إلى الناس ، حتى يسري الحق إليهم ، قال تعالى :
فَبِما رَحمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُم ۖ وَلَو كُنتَ فَظًّا غَليظَ القَلبِ لَانفَضّوا مِن حَولِكَ ۖ فَاعفُ عَنهُم وَاستَغفِر لَهُم وَشاوِرهُم فِى الأَمرِ ۖ فَإِذا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلينَ ﴿١٥٩﴾
(سوروة آل عمران)
قال الخليفة لأحد العلماء عِظْني : فقال له العالم : سأنصحك وسأغلظ عليك ، قال : ولِمَ الغِلظَة يا أخي ، لقد أرسل الله مَن هو خير منك إلى من هو شر مني ؛ لقد أرسل موسى وهارون إلى فرعون ومع ذلك قال لهما : فقولا له قولاً ليناً .. فلِمَ الغِلظَة ؟ من قال لك إن النصح يحتاج إلى غِلظَة ؟.
الإمام الرازي كان من كبار العلماء ، إنه الفخر الرازي ، وله هيبة كبيرة ، وله موكب فخم ، وقد كان في درسٍ من دروسه ،فخرج من المسجد ،ثياب أنيقة ومعه تلاميذه ، ووجهه منير متألق مهيوب ،فرآه يهودي ،عامل مجارير ،فقير مسحوق ، جوعّ على مرض على حرمان على فقر على احتقار الناس له ،فنظر هذا اليهودي إليه وقال له : يا هذا يقول نبيكم الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ،فأي سجن أنت فيه وأي جنة أنا فيها ، فقال له الإمام الرازي : يا هذا ما أنا فيه إذا قيس إلى ما أعدَّ الله للمؤمن فأنا في سجن ، وما أنت فيه إذا قيس بما أعد الله للكافر من عذاب فأنت في جنة . يُقال ثم إِنه تفكر ملياً وقال أشهد ألا إله إلا الله ، حقاً إنه جواب مفحم أي ما أنا فيه من هذا العِزّ إذا قيس إلى ما وعدني الله به من جنة عرضها السماوات والأرض فأنا في سجن .
وهكذا قال عليه الصلاة والسلام ،انتقال المؤمن من الدنيا إلى الآخرة كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا ،فالجنين يعيش في سبعمائة وخمسين سنتمتراً مكعباً بالضبط ، والرحم تجويفه قبل الحمل حوالي سنتمترين مكعبين وكأنه لا يوجد تجويف ،بل عبارة عن عضلة على شكل إجاصة ،وجحمه أثناء الحمل أو بأعلى نسبة سبعمائة وخمسين سنتمتراً مكعباً، والإنسان إذا ولد ثم كبر وتجوّل يقول لك : والله كنا في أمريكا واستغرق سفرنا عشر ساعاتِ طيران ،كان محبوساً في سبعمائة وخمسين سنتمتراً ثم طار في الأجواء ، فكيف ينتقل الإنسان من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا ، قالوا : المؤمن حينما يموت ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، ولهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين :
إِنَّ أَصحٰبَ الجَنَّةِ اليَومَ فى شُغُلٍ فٰكِهونَ ﴿٥٥﴾ هُم وَأَزوٰجُهُم فى ظِلٰلٍ عَلَى الأَرائِكِ مُتَّكِـٔئونَ ﴿٥٦﴾ لَهُم فيها فٰكِهَةٌ وَلَهُم ما يَدَّعونَ ﴿٥٧﴾ سَلٰمٌ قَولًا مِن رَبٍّ رَحيمٍ ﴿٥٨﴾ وَامتٰزُوا اليَومَ أَيُّهَا المُجرِمونَ ﴿٥٩﴾
(سورة يس)
هذه هي البطولة ، أن يأتي هذا اليوم وأنت في منجاة ، وأنت من أهل الجنة ، نسعى كلنا ونجتهد ، ونحضر دروس علم ،و نغضّ بصرنا ونخاف من الله ، ونضبط ألسنتنا ، ونضبط جوارحنا ، و نقرأ القرآن ونخدم بعضنا ، حتى يأتي هذا اليوم الذي نسعد فيه .
فحظ العبد من هذا الاسم أن يتودد إلى العباد ، فهنا طفل توددْ إليه ، وهناك كبير توددْ إليه ، وأكبر منك عامله بالاحترام ، وأصغر مِنكَ فبالرحمة ، وبمستواك فبالإحسان ، هذا هو المؤمن ، يجعل من إحسانه طريقاً إلى الدعوة إلى الله عز وجل .
وبعد ، فهناك سؤال لا بد منه : هل الود هو الرحمة؟ فهمنا أن الود هو الحب والحب مشاعر داخلية تنتقل إلى سلوك مادي ،هذا هو الود ، الود والمحبة وجهان لشيء واحد ، مثل الإخلاص والعبادة ،من الداخل إخلاص ومن الظاهر طاعة ، فالشعور الداخلي حب ، والسلوك العملي مودة .
وهل هناك فرق بين المودة والرحمة ؟ ، إنه : لفرق كبير فالرحمة متعلّقة بمخلوق ضعيف ، بمخلوق يستجير ،وبإنسان مريض وبإنسان مُعذب ، بإنسان فقير ، فأنت ترحمه ! أمّا الود فليس للضعيف فأنت حين تقدّم شيئاً إلى إنسان من دون أن يسألك ، فابتداءً هذا هو التودد وأحياناً يطرق بابك إنسان ، فيتوسل إليك ويقول : أقرضني أرجوك أسعفني ،اقبلني عندك ضيفاً ، أو أوصلني إلى هذا المكان ، أو ارحمني خذني إلى الطبيب الفلاني ، فهذا إنسان مستجير ، وأنت إذا فعلت ما يناسب فما اسمك ؟ اسمك رحيم ، وذاك مخلوق ضعيف استجار بك، أما إذا زُرتَ صديقاً في أوج صحته وقوته وشبابه ، ومكانته ، وقدمت له هدية بمناسبة زواجه ، و هو لم يستجر بك ، فالود ابتداء ، وأمّا الرحمة فيسبِقُها طلب والود لغير الضعيف ، والفقير والمستجير ، هناك فرق بين الود والرحمة ، فربنا عز وجل حينما خلقنا كان ودوداً ، ونحن لم نكن موجودين ، فهو خلقنا وأكرمنا وأنعم علينا ، مودته لنا ابتداء وهي أرقى بكثير .
ولقد قرأت قصة من أدق القصص ، عن أحد ولاة العباسيين في الشام ، إذ حدثت فتنة في الشام فضيّقوا الخِناق على الوالي فولّى هارباً مع بعض أعوانه ، وتَبِعَهُ رجال ليقتلوه فدخل بيتاً واستجار به ، وصاحب البيت أجاره ، وبقي عنده أربعة أشهر ، فأكرمه أبلغ إكرام ولم يسأله عن اسمه ، ثم طلب أن يذهب إلى بغداد فجهز له عبداً ودابتين وفرساً وصندوق أمتعة ،وطعاماً وشراباً ،وألحقه بقافلة ، وأكرمه إكراماً منقطع النظير أربعة أشهر يقدم له كل شيء من دون أن يسأله عن اسمه ، فلما أزمع السفر إلى بغداد وقد قدم له كل شيء ، واعتذر منه يقوله : لعلّنا قصًّرنا في حقِك ، ولم يعرف اسمه ، وفي بغداد صار هذا الرجل الطريد في منصب صاحب الشرطة يعني وزير داخلية عند المنصور ،وبينما كان في حضرة المنصور جاء الجنود برجل يكاد يموت من شدة التعذيب ، فألقوه مكبلاً بالقيود في حضرة المنصور ،وقالوا هذا فلان جئنا به، ويبدو أن الوقت متأخر فقال المنصورلصاحب شرطته ، خذه في عهدتك إلى غد ،وكان شخصاً خطيراً جداً ، فطبعاً غداً سيُقتل ،و لشدة حرص الأمير صاحب الشرطة على حياته على حياته أخذه إلى بيته ، وقال له من أين أنت ، قال أنا من الشام ، قال : وما قصتك قال: ثارت فتنة هوجاء في الشام وأُلصقت بي هذه التهمة وعُذبت وساقني المنصور إلى بغداد وسيقتلني غداً وأنا بريء ، قال له: بارك الله في أهل الشام ، أنا كنت في الشام مرةً وثارت فتنة كما تقول والتجأت إلى بيت وذكر له قصته مع صاحب ذاك البيت بشكل مفصّل ، وقال : والله لا أتمنى على الله إلا أن يجمعني به لعلي أُقدم له بعض الجميل ، قال : إن الله عز وجل قد أكرمك وجمعك به عن غير قصد ، فأنا ذلك الرجل ، ومن شدة الآلام والتعذيب فإن ملامحه قد تغيرت ،يقولون : إن صاحب الشرطة أول شيء فعله وقف مرتعداً وطلب الحداد وقال له فُك قيوده ، وفوراً فُكت قيوده ، فأدخله الحمام وألبسه أحسن الثياب ، وقال أنت حر فافعل ما تشاء ،وأنا سأتحمل عنك غداً كل مسؤولية عند الخليفة ، وهذا أقل ما أفعله معك ، قال : والله لو توجهت إلى أي مكان فسوف يأتي بي ويقتلني ، اذهب إليه ، فلما دخل على المنصور قال له : أين فلان ، والله لو قلت لقد هرب لأضربن عنقك ، قال : هذا كفني تحت إبطي واسمع قصتي وافعل بي ما تشاء ، قال : هذا الرجل فعل معي كذا وكذا يوم كنت والياً الشام ، فيقول المنصور ، أكرمك الله ، لقد أكرمك وهو لا يعرفك ، وأنت الآن فعلت معه ما فعلت وأنت تعرفه ، لكني أنا الذي سأكافئه عنك ، اذهب إليه واستقدمه إلي وأمنّهُ ، فالمنصور عيّنَهُ والياً على الشام ، وانقلب أمره ، من القتل إلى الولاية . فما هذا المعروف!!.؟
استرعى نظري في القصة ، أنه أكرَمَكَ وهو لا يعرِفُك ، هذه هي المودة أما أنت فإكرامك له الآن ردُّ جميل لا أكثر ،أنت مديون له ولو قدمت نفسك مكانه لما فعلت إلا القليل ، هو قدم لك الحياة ، فقد كنت مقتولاً ، وأدخلك إلى البيت ودافع عنك وقدم لك كل شيء أربعة أشهر واعتذر منك وهو لا يعرفك ، الأولى أبلغ من الثانية ، قال له : مهما فعلت فلن تكافئه وأنا سأكافئه ، واستقدمه ، فاعتذر عن قبول الولاية بالشام فأرسل كتاباً إلى والي الشام أن يعتني به وأن يبالغ في إكرامه .. البر لا يبلى ، والذنب لا يُنسى ، والديّان لا يموت اعمل ما شئت كما تدين تدان .
لكن الإنسان إذا ما تحسس فضل الله عز وجل ، " أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ " وفي سورة أخرى " يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ " وقال تعالى :
قُتِلَ الإِنسٰنُ ما أَكفَرَهُ ﴿١٧﴾ مِن أَىِّ شَيءٍ خَلَقَهُ ﴿١٨﴾ مِن نُطفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴿١٩﴾ ثُمَّ السَّبيلَ يَسَّرَهُ ﴿٢٠﴾ ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقبَرَهُ ﴿٢١﴾ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنشَرَهُ ﴿٢٢﴾ كَلّا لَمّا يَقضِ ما أَمَرَهُ ﴿٢٣﴾
(سورة عبس)
ماذا ينتظر الإنسان وماذا يفعل ؟ وما الذي منعه أن يتوب إلى الله؟ وما الذي يمنعه أن يصلي ؟ وأن يذكر الله عز وجل ، وأن يفعل الخير مع الناس جميعاً .
ولقد حدثني أخ من إخواننا الكرام ، عن حادثة ، قال كنت راكباً سيارتي وماراً في ضاحية دمر ،والحادثة قديمة منذ عشر سنوات أو أكثر فوجدت رجلاً في الساعة الثانية عشرة ليلاً واقفاً مع امرأة ويحمل أحدهما طفلاً صغيراً ، قلت لعلهم غرباء أوْ لهم حاجة ، فوقف وقال خيراً ، فوجد الطفل بحرارة مرتفعة جداً ، والأب والأم من لبنان هاربان من الأحداث وهو يسكن في منزل بالإجرة عند جيران ، والابن مريض ولا يعرفان شيئاً في الشام ، قال أركبتهم وبقيت معهم من طبيب إلى طبيب إلى مستشفى .. للمعالجة وتوفير العلاج ، ولصيدلية مناوبة حتى الساعة الرابعة صباحاً وأرجعتهم إلى المكان الذي أخذتهم منه ، ثم أقسم لي هذا الأخ الكريم أنه بقي أسبوعين وهو غارق في السعادة ، يعني إذا أردت أن تسعد فأسعد الآخرين .
لا يعرف طعم الإحسان إلا المُحسن ، وسيدنا عمر كان يتمشى ذات ليلة في المدينة مع سيدنا عبد الرحمن بن عوف ، فلما رأى قافلة في أطراف المدينة وقد نام أصحابها ، قال لصاحبه تعال نحرسها لوجه الله إنهم تُجّار ومعهم متاع وبضاعة فبكى طفل صغير ، فقال لأمه أرضعيه سكت الطفل ، ثم بكى، فقام إليها وقال أرضعيه ،أسكتته ثم بكى ، فغضب فقام إليها وقال يا أَمَةَ السوء أرضعيه ، قالت يا هذا ما شأنك بنا ، إنني أفطمه وعمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام ، " العطاء يعني التعويض العائلي " في زماننا ، يقول سيدنا عمر قد ندّت منه صيحة وضرب رأسه وقال ويحك يا ابن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين ، .. فكل هذا التعذيب مني وأنا السبب ، لأن العطاء بعد الفطام وهي الآن تفطمه وتجيعه فأصدر أمراً فورياً أن العطاء بدءاً ساعة الولادة ، ثم صلى الصبح وما سمع أصحابه من قراءته شيئاً لشدة بكائه ، وكان يقول: يا رب هل قبلت توبتي فأهنِّئ نفسي أم رددتها فأعزيها .
المُحسن أسعد الناس ، وقد قرأت كلمة في مجلة ، وهي أربع كلمات فأحياناً تنتهي المقالة في المجلة ويبقى في صفحة منها فراغ فيزينونها بكلمة مثل هذه " إذا أردت أن تسعد فأسعد الآخرين "
عزيزي القارئ اذكر دائماً : الله عز وجل مُحسن ، ويحبك أن تكون محسناً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق