الأربعاء، 27 يونيو 2012

مصعب بن عمير - رضى الله عنه‎

الصحابى الجليل / مصعب بن عمير
رضى الله عنه و أرضاه
أول سفير فى الإسلام
رحلة البذل والعطاء
ما يزال التاريخ يهل علينا من فيض عطائه الوفير، يروي لنا أنباء
أعظم ثلة عرفها، ففي هذه المرة يطالعنا بقصة بطل آخر من أبطال
المدرسة النبوية، يرتسم قدوة لشباب الأمة المحمدية، قدوة في العطاء
والبذل والتضحية، إنه مصعب الخير، مصعب بن عمير.
الغني الثري:
ذلكم الشاب الذي كان أنعم فتى في مكة، فهو فتى قريش المدلل، ما تراه
يتكلم في مجلس من المجالس إلا ويخيم الصمت على الجلوس
(ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه، زينة المجالس والندوات،
تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها، ذلك أن أناقة مظهره
ورجاحة عقله كانتا من خصال ابن عمير التي تفتح له القلوب
والأبواب) [رجال حول الرسول، خالد محمد خالد، (1/1)].
يقول سعد بن أبي وقاص: (كنا قومًا يصيبنا ظلف العيش بمكة مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصابنا البلاء اعترفنا ومررنا
عليه، فصبرنا وكان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة وأجوده حلة مع
أبويه) [أسد الغابة، ابن الأثير، 1/ 1016].
نقلة بعيدة:
وقد أسلم مصعب رضي اله عنه، وبإسلامه انتقل نقلة بعيدة، ترك رغد
العيش من أجل أن يحيا حياة السعداء من خلال التضحية والبذل
والعطاء لدين الله تعالى، كان من فضلاء الصحابة وخيارهم ومن
السابقين إلى الإسلام، أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في دار
الأرقم، وكتم إسلامه خوفًا من أمه وقومه، وكان يذهب إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًا، فبصر به عثمان بن طلحة يصلي
فأعلم أهله وأمه فأخذوه فحبسوه، فلم يزل محبوسًا إلى أن هاجر إلى
أرض الحبشة، وعاد من الحبشة إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة بعد
العقبة الأولى ليعلم الناس القرآن ويصلي بهم.
قمة العطاء:
جاءت اللحظة المنتظرة التي كان مصعب ينتظرها ليبرهن على حبه
لله عز وجل ودينه لله تبارك وتعالى، فقد أرسله النبي
صلى الله عليه وسلم داعيًا ليدعو أهل المدينة إلى الإسلام، ولما علم
الله أن هذا العبد مخلص له يبتغي من عمله الأجر والثواب والجنة،
وفقه الله في دعوته بالمدينة فقد أسلم على يديه أسياد المدينة وهم
سعد بن معاذ وأسيد بن حضير رضي الله عنهما، وكان له الفضل في
إسلام أهل المدينة كلها.
استشهاده يوم أحد:
ولما دعى داعي الجهاد في سبيل الله وخرج الناس
مع نبيهم صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، إذا بهذا الفتى تطير
نفسه شوقًا إلى الموت في سبيل الله فما أجمل حياته وما أحسن مماته،
يقول خباب ابن الأرت رضي الله عنه:
(عن خباب قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لسبيله لم
يأكل من أجره شيئًا، منهم: مصعب بن عمير قتل يوم أحد، ولم يترك إلا
نمرة، كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غطوا رأسه، واجعلوا على
رجليه من الإذخر)) [سير أعلام النبلاء، الذهبي، (1/146)].
تأملات في سيرة سفير الإسلام:
وبعد هذا السير الماتع في حياة مصعب، نتوقف قليلًا، لنستقي من نبع
سيرة مصعب رضي الله عنه أهم الدروس والعبر:
1. من ترك شيئًا لله أبدله الله خيرًا منه:
إن مصعب رضي الله عنه عندما أصبح أمامه الاختيار بين طريق
الإسلام المليء بالتضحيات والعطاء، وبين رغد العيش ونعيمه ولكن في
معصية الله، إذ به يقدم على طريق الإسلام الذي ربما لم يجد فيه سعة
المال ودفء الفرش والثياب، لكن ربه أبدله بسعة المال سعة الرضا،
وأبدله بدفء الفرش ثوبًا سابغًا من الإيمان، فكيف حال شباب الإسلام
الذين يقبلون على قطع خطوات مصيرية في حياتهم يرتبط بها مواصلة
السير في طريق الله، أو حتى بدء السير؟
لاشك أن الكثير تواجهه أمور، وتحيط به حادثات ربما تحاول أن تثنيه
عن بدء المسير، أو مواصلته: "فهذا في حيرة من أمره، أيترك رفقة
السوء والضلال التي تمر عليه معهم سويعات من اللذه المحرمة، والتي
تعقبها أيام وشهور من الضيق والضنك، ويبحث عن رفقة إيمان
وصلاح، أم يوفر على نفسه عناء البذل ووابل من السخرية والتجهم
والإنكار من قبيل رفقته القديمة؟"
وآخر في مفترق طرق أيترك التدخين ويعلن لله توبة نصوحًا ويغسل
فمه منه بماء الذكر ولو وجد من نفسه عناد؟ أم يظل هكذا "ولسان حاله
ومقالة هي عادة يصعب تركها".
والسؤال الآن، يا سمعت قصة مصعب، أيسعه رضي الله عنه أن يترك
المال والأهل والزينة والنعيم من أجل مواصلة السير في طريق
الله جل في علاه، ويضيق عليك ترك سيجارة ورفقة تأخذ بيديك إلى
الشر؟ أنى لعاقل أن يرضى بذلك؟
بل طريق الإسلام الصحيح هو طريق التضحية والبذل والتخلية من
الذنوب والأدناس والتحلية بالإيمان والصبر والعطاء كما رأينا في قصة
مصعب بن عمير، (وما الدعوة إلا عطاء دائم يبذل فيه الداعية من
مشاعره ومن وقته ومن ماله ومن جاهه ومن قوته ومن حيلته حتى
يبلغ الغاية ببذل نفسه في خدمة دين الله تعالى) [مقومات الداعية
الناجح، على بن عمر بن أحمد بادحدح، ص(183)].
فإذا ما رمت أيها الشاب سيرًا على خطا مصعب، فأعلنها تضحية وبذل
"لله"، وتخلق بالصبر فهو زاد الباذلين، فما الذي يحول بينك وبين
الذنوب التي كانت غارقًا فيها، سوى صبر عنها ابتغاء ما عند
الله جل في علاه، فاصبر أيها الشاب صبرًا كصبر مصعب جميل وتذكر
قول طبيب القلوب ابن القيم طيب الله ثراه يوم أن قال:
(مما ينبغي أن يعلم أن الذنوب والمعاصى تضر، ولاشك أن ضررها فى
القلوب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر،
وهل فى الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصى؟ فما الذي
أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار
الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء
وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه؟
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رأس الجبال؟
وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتي على وجه
الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت ما مر عليه من ديارهم
وحروثهم وزروعهم ودوابهم؛ حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتي قطعت قلوبهم في أجوافهم
وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي رفع قرى اللوطية حتي سمعت الملائكة
نبيح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها فأهلكم جميعًا ثم
أتبعهم حجارة من سجيل السماء أمطرها عليهم؟ فجمع عليهم من
العقوبة ما لم يجمعه علي أمة غيرهم ولإخوانهم أمثالها، وما هي من
الظالمين ببعيد؟) [الجواب الكافي، ابن القيم، (27)].
2. الإخلاص:
وإذا نظرنا معًا مدى توفيق الله تعالى لمصعب في دعوته بالمدينة نجد
أن ذلك نابعًا، من أن قلبه قد عمر بالإخلاص لله تعالى، فهو لا يريد
بهذا العمل مجدًا ومكانة في الدنيا، ولننظر إلى حجم هذا الثواب الذي
فاز به مصعب رضي الله عنه، فقد أسلم على يديه سعد بن معاذ الذي
اهتز لموته عرش الرحمن، وأسيد بن حضير، وغيرهم من الصحابة في
ميزان حسنات مصعب بن عمير رضي الله عنه.
(فالإخلاص هو أن يبتغي طالب حياة النور بعمله وجه الله، طالبًا به
رضوانه، راجيًا به نجاة من عذاب السموم، وفوزًا بجنات النعيم، لا يريد
من الناس جزاء ولا شكورًا، كما هو فعل المؤمنين الذين يطعمون
الطعام على حبه ولسان حالهم يقول:
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]).
[حياة النور، فريد مناع، ص(121)].
وقد علمنا سلفنا الصالح معنى الإخلاص:
(قيل: هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة،
وقيل: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين،
وقيل: نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق،
وقال بعضهم: الإخلاص ألا تطلب على عملك شاهدًا غير الله، ولا مجازيًا سواه)
[مدارج السالكين، ابن القيم، ص(384)،
نقلًا عن حياة النور، فريد مناع، ص(121)].
3. الإيجابية والمبادرة:
إن مصعب رضي الله عنه، ضرب لنا المثل في إيجابيته وفاعليته، فعلى
الرغم من العقبات التي قابلته في طريقه من رفض أسيد بن حضير
وسعد بن معاذ دعوته في بادئ الأمر، إلا أنه استطاع التغلب على تلك
العقبة وغيرها من العقبات، فطريق الدعوة إلى الله يحتاج من الشاب
المسلم أن يصبر في أوله ويستعن بالله على إزالة أي عقبة أمامه
ولا يعجز، وبعدها سيأتي الفتح من الله تعالى، فالإيجابية صفة ملازمة
للشاب المسلم.
وإذا نظرنا إلى واقع المجتمعات والشباب، سنرى غياب قيمة الإيجابية
والمبادرة، (فقد يكون الإنسان ذكيًا أو صاحب شهادات علمية رفيعة
ولكنه لا يتمتع بالفاعلية، لأن الثقافة المحيطة به والتي أشربها لا
تساعده على إنجاز كبير، إن لم يتخلص من آثارها السلبية.
وهناك مجتمعات تتغلغل فيها صفات الفردية والأنانية والحسد، وهناك
أمراض تنخر الروح مثل الغرور والتكبر، وهناك مجتمعات تحمل أفكارًا
تساعد على العطالة، كمن يقرأ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم
المتعلقة بالمستقبل والفتنة والملاحم فيفهمها فهمًا مغلوطًا، ومن ثم يقعد
في بيته لا يعمل شيئًا لنصرة الإسلام بحجة أن الأمور تسير القهقري
ولا فائدة في العمل... إلخ) [الفاعلية وعوامل تنميتها، د.محمد العبدة،
(5-6)].
كلمة أخيرة:
إن ذكرنا لسير الصحابة وبطولاتهم العظيمة، لا يأتي من باب الثقافة
الباهتة التي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة، وإنما ليكون للقصة أثرًا
واقعيًا في حياتنا العملية، ولذا نختم ببعض الكلمات العملية التي أوصي
نفسي وأياكم بها:
1. تذكير النفس بالإخلاص قبل أي عمل ستقوم به سواء طاعة أو طلب
للعلم وغيره.
2. حدد أهم العقبات التي تعيقك عن أهدافك وابحث عن حلول
لتجاوزها، واستشر من تثق بهم.
3. ذكر نفسك دائمًا بأن التضحية هي سبيل ترك كل سوء، وعاقبتها
الخير كله في الدارين، وما قصة مصعب الخير عنك ببعيد.
المصادر:
· الفاعلية وعوامل تنميتها، د.محمد العبدة.
· مدارج السالكين، ابن القيم.
· حياة النور، فريد مناع.
· الجواب الكافي، ابن القيم.
· مقومات الداعية الناجح، على بن عمر بن أحمد بادحدح.
· سير أعلام النبلاء، الذهبي.
· رجال حول الرسول، خالد محمد خالد.
· أسد الغابة، ابن الأثير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق